صليب من زغرتا يرتفع في دير الموارنة في القدس

طنوس الجعيتاني صنعه عام 1963  وابن شقيقه يعثر عليه بعد نصف قرن ويرممه.

 كتب سركيس كرم
قصة الصليب "الزغرتاوي" في قلب مدينة القدس تستحق النشر والإهتمام لما تتضمنه من محطات مليئة بعمق الإيمان والتعلق بالجذور والألتزام القوي بالعزيمة المارونية التي انطلقت من جبال شامخة بثبات قيمها وراسخة في اندفاع أبنائها ونخوتهم. فهذا الصليب الذي تمّت صناعته في زغرتا لبنان الشمالي على يد المرحوم طنوس رومانوس الجعيتاني ما زال يشهد برمزيته على تعلق الموارنة بتراثهم وتقاليدهم ورغبتهم بأن يكون للصليب الماروني محطة يستقر فيها في القدس بين صلبان الطوائف المشرقية الاخرى.  ولم يكن ليصل هذا الصليب الى القدس يومها لولا ارادة صانعه الجعيتاني ونذره من اجل ان يشفيه الرب من مرض أصابه وأفقده القدرة على النطق، والنذر يقضي بأن يسعى الى صنع ونقل صليب "ماروني" كبير الى القدس حيث ولد السيد المسيح لكي يرفع في أحد كنائسها. ومن سنة 1963 يرتفع ذلك الصليب في باحة  دير الموارنة الأثري الذي  يقع داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس، في حارة الأرمن، بجوار باب الخليل.
دير الموارنة في القدس
لقد تم بناء دير الموارنة عام 1895. وكان الأسقف الياس الحويِّك، الذي أصبح بطريركاً فيما بعد، قد أنشأ عام 1894 النيابة البطريركية المارونية في القدس، في الموقع الموجود حاليا. تم ترميم الدير جزئيا في عام 1976 ليصار الى تشييد بيت الضيافة  مع قاعة متعددة الأستعمالات للشباب وأبناء الرعية، وقد تم الانتهاء من أعمال الترميم في العام 2001  وفي العام نفسه، تم توسيع المباني من شراء منزل مجاور وبناء مسكن بطريركي. وتجدر الإشارة الى انه عام 2014 أقام البطريرك الأنطاكي، الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في الدير أثناء زيارته القصيرة التي جاءت  للمشاركة في استقبال البابا فرنسيس في زيارته للأرض المقدسة. علماً ان المطران موسى الحاج هو اليوم رئيس أساقفة الموارنة في حيفا والأرض المقدسة. وتقول مسؤولة راهبات القديسة تريزيا للطفل يسوع المارونيات في القدس والمسوؤلة في بيت مار مارون لاستضافة الحجاج الأخت جان غبرييل سعيد العريجي من زغرتا "ان حضور الكنيسة المارونية في الأرض المقدسة متواضع نوعا ما، لكنه حضور نشط جداً. فبالإضافة إلى اهتمامها بالرعايا، اختارت الكنيسة أن تعرّف العالم بأسره على الأرض المقدسة من خلال الوكالة البطريركية بيت مار مارون لاستضافة الحجاج. وهناك أيضا المكتب الأبرشي الماروني للحج. يقع بيت مار مارون لاستضافة الحجاج في قلب البلدة القديمة في القدس على بعد خطوات قليلة من كنيسة القيامة". وتضيف الأخت جان غبرييل العريجي التي بدأت الخدمة في الدير منذ 37 سنة " بيت مار مارون هو مركز النيابة البطريركية المارونية بإدارة الخوري جوزيف صفير، الذي يدير هذه البيت في مركز البلدة القديمة بمساعدة راهبات القديسة تريزيا للطفل يسوع". 
قصة الصليب 
 
               المرحوم طنوس الجعيتاني                                             الكتابة على الصليب                                            
يخبرنا السيد انطوان لطفالله الجعيتاني المقيم في سيدني استراليا منذ سنوات والذي خدم الجالية الزغرتاوية كرئيس لجمعية بطل لبنان يوسف بك كرم الزغرتاوية لمدة سنتين ان عمه المرحوم طنوس الجعيتاني كان يعمل في في الحدادة وذات يوم من عام 1959 وقعت حادثة معه كادت ان تودي بحياة عائلة من آل الزلوعا "الزير" كانت تسكن بجوار مشغل طنوس عندما فقد السيطرة على أنبوب حديد كبير وأخذ الأنبوب يتدحرج بسرعة نحو بيت الجيران الى ان أرتطم بالباب حيث كان بعض افراد العائلة جالسا مما جعل طنوس يصاب بصدمة نفسية قوية أفقدته القدرة على النطق بعدما ظن انه تسبب بمقتل احد الجيران. بعد الحادثة توارى طنوس عن الأنظار لفترة طويلة وصار يعمل بصمت داخل مشغله ليتبين لاحقاً انه نذر ان يصنع صليبا من البرونز بحجم كبير وينقله الى القدس علّ الله يشفيه ويعيد اليه القدرة على الكلام. وفي اواخر عام 1962 أكمل طنوس عمله وطلب من الأهل مساعدته على نقل الصليب من زغرتا الى القدس. وكان الراوي انطوان الجعيتاني وهو في عمر السبع سنوات من بين الذين توجهوا الى المدينة المقدسة. 

أعجوبة في القدس
عند وصول الوفد القادم من زغرتا الى القدس ومعه الصليب البرونزي أستعاد طنوس الجعيتاني قدرته على النطق مما أثار ذهول جميع الذين عايشوا الفترة الطويلة التي قضاها وهو أبكم لا ينطق بكلمة من شدة الصدمة التي تعرّض لها. فتحولت فرحة رفع الصليب "الماروني الزغرتاوي" في القدس الى فرحة مزدوجة بعدما عاد طنوس الى سابق عهده. 
العثور على الصليب وترميمه
 
       انطوان الجعيتاني والخوري جوزيف صفير                الأخت جان العريجي تتوسط انطوان الجعيتاني وعقيلته
وتمر الأيام وما زال الصليب في ذاكرة ومخيلة انطوان الجعيتاني الذي كان ينتظر الفرصة لزيارة القدس بغية البحث عن الصليب الذي يجسّد حالة وجدانية لديه. وفي عام 2015 توجه انطوان برفقة عقيلته الى الأراضي المقدسة رغم الصعوبات المعروفة في السفر الى تلك البقعة من الأرض التي شهدت ولادة المسيح، وأخذ يبحث عن مكان تواجد الصليب الى ان وصل الى دير الموارنة الذي  يقع داخل أسوار البلدة القديمة لمدينة القدس. عند دخوله باحة الدير مع بعض الأشخاص تطلع الى الصليب الكبير "الداكن" المعلق في أعلى حائط الباحة الرئيسية. حدّق به قليلا ثم قال "هذا هو الصليب"، لكن من معه أستغرب كيف بوسعه ان يتذكر انه هو الصليب ذاته وما الدليل على ذلك!. فما كان من انطوان إلا ان سارع الى التقاط صورة على الخلويي وقام بتكبيرها لتظهر كتابة في كعب الصليب وهي بالكاد واضحة: "تقدمة الطائفة المارونية اهدن-زغرتا لبنان الشمالي. شغل طنوس رومانوس الجعيتاني  سنة 1963". فبادر انطوان الى الطلب من الأخت جان غبرييل العريجي ومن الخوري جوزيف صفير السماح له بترميم الصليب وإعادته الى لونه البرونزي الأصلي ليصار بعدها الى رفعه على حائط باحة الدير من جديد.    

                      الصليب أثناء ترميمه                                                  وعند أعادة رفعه
في عام 2016 كرر انطوان الجعيتاني زيارته الى الدير ليشرف على عملية الترميم التي تبرع بتكالفيها فتم أنزال الصليب لمدة قصيرة جرى خلالها نزع السواد الرابض على لونه الأصلي بسب عامل الزمن وأعيد دهنه وتثبيت معالمه كأكليل الشوك والمسامير ليعود الى ما كان عليه وقت تصنيعه على يد طنوس. ثم قام العمال برفعه مجدداً على جدار الباحة لتبقى ذكرى طنوس الجعيتاني حية ولتظل هدية الصليب الماروني الآتية من زغرتا ترتفع في قلب مدينة القدس.  كل ذلك بفضل نخوة انطوان لطفالله الجعيتاني وتعاون الأخت جان غبرييل سعيد العريجي والخوري جوزيف صفير.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق