سورة الفاتحة من الآية 5 إلى الآية 7/ عبدالله بدر اسكندر

قوله تعالى: إياك نعبد وإياك نستعين: ترجع جميع اشتقاقات المعنى المجرد لمفهوم العبادة إلى التذلل والخضوع، وإن كان هناك توسعاً في الاستعمال فهذا يُرد إلى اختلاف المصاديق التي يتفرع إليها اللفظ وعند اعتماد هذا النهج يظهر أن العبادة هي جعل الإنسان نفسه في مقام المملوكية لله تعالى ومن هنا يتبين مدى انتفاء الاستكبار عن العبد، ولا يخفى على ذوي البصائر أن هذا المعنى يظهر جلياً من خلال نوع الجزاء الذي يلحق بالمستكبرين عن عبادته جل شأنه والذين أشار إليهم بقوله: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) غافر 60. ولو تأملت الفرق بين الآية آنفة الذكر وبين قوله تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) الكهف 110. لعلمت السبب الذي يؤول إليه اقتران النهي في آية سورة الكهف، دون آية سورة غافر وذلك لعدم اجتماع الاستكبار مع العبادة فتامل. وبهذا تظهر النكتة في مدحه تعالى لعباده الذين وعدهم بالاستخلاف والتمكين وذلك في قوله: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً) النور 55. وكما ترى فإن قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) فيه دلالة على اعتماد النظام الجمعي سواء في العبادة العرفية أو ما يلحق بها، وهذا ظاهر في ضمير الجمع المشار إليه بقوله: (نعبد) وكذا قوله: (نستعين). 
قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم: الصراط هو دين الله تعالى الذي بينه على لسان رسله، والذي يدعو من خلاله إلى توحيده جل شأنه كما في قوله: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) الأنعام 161. وهذا النهج يبنى على استمرار الاستقامة دون العدول عنها، وبذلك نصل إلى أن سبب تأكيد الصراط بـ (المستقيم) يعني طلب العبد للاستمرار في الاستقامة، وذلك لأن مصطلح الصراط يتضمن الاستقامة في نفسه، كما قال الشاعر:
شحنا أرضهم بالخيل حتى... تركناهم أذل من الصراط
أي تركناهم أذل من الطريق المعبد الذي يصل بسالكيه إلى مبتغاهم. فإن قيل: ما هو الغرض من طلب الهداية لا سيما في سورة الفاتحة التي تكرر في كل صلاة إذا علمنا أن الإنسان قد اهتدى مسبقاً؟ أقول: استمرار طلب الهداية اشبه بالاغتسال الذي يسبق الأمور العبادية وأنت خبير من أن طلب الهدى يؤدي إلى استقراره في نفس الإنسان الصالح، كما في قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) القتال 17. أما الزيغ عن طريق الحق سبحانه فإنه يجعل القلب لا يتقبل الحقائق الإيمانية، كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين) الصف 5. من هنا يتضح أن الهداية التي يستمدها الإنسان مباشرة من الله تعالى لا يمكن استمرارها إلا بمتابعة طلبها قولاً وعملاً، ولهذا نجد الاشارة في متفرقات القرآن الكريم تبيّن هذا الأمر وتجليه على حقيقته التي حرفها بعضهم إلى اتباع السبل الجائرة، وقد ذكر تعالى هذه الحقيقة بقوله: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون) فصلت 17.
فإن قيل: هل يمكن أن نفهم من الآية أن الصراط هو أحد الطرق الحسية التي تظهر في الآخرة؟ أقول: الاستعمالات الحسية كثيرة في القرآن الكريم لأنها السبيل الوحيد في تقريب المعاني إلى الأذهان باعتبار أن اللغة هي الوسيلة الأقرب لتبيان الطرق المعنوية إذا ما قرناها بالطرق الحسية المألوفة لدينا وهذا نهج واسع في كتاب الله تعالى، حيث نجد انتشار الصور التي ترمز إلى السقوط من الأعلى إلى الأسفل، وفتح أبواب السماء والانحراف عن سواء السبيل والصعود إلى الأعلى وما إلى ذلك من الاشارات التي يتفهمها الإنسان من خلال المناظر التي دأب على مشاهدتها، وأصبحت راسخة في ذهنه، فعند مشاهدة الأشياء الساقطة على الأرض من الأعلى فإن هذا المنظر يرشد إلى الواقع الخاسر الذي يكرر أمام أعين الناس في كل وقت، ولهذا أشار تعالى إلى الخسران المعنوي بقوله: (كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) طه 81. وعند التأمل أكثر نجد أن القرآن الكريم يصور السماء بأنها ذات أبواب لا يمكن فتحها للذين كذبوا بآيات الله واستكبروا عنها، كما في قوله: (إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين) الأعراف 40.
وفي موضع آخر نشاهد صورة أخرى لوسط الطريق الذي ضل عنه من يتبدل الكفر بالإيمان، وذلك في قوله تعالى: (ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل) البقرة 108. أما الطرق الصحيحة التي تؤدي إلى الصراط المستقيم فقد أشار إليها تعالى بالارتفاع والصعود، كما في قوله: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) فاطر 10. وكذا قوله: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة 11. وقد جمع الحق سبحانه هذه الوجوه التي تصور تعدد السبل الصحيحة التي تنتهي إلى صراطه المستقيم، وذلك في قوله: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين... يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) المائدة 15- 16.
قوله تعالى: صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين: يقول القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: اختلف الناس في المنعم عليهم، فقال الجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) النساء 69. فالآية تقضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد، وجميع ما قيل إلى هذا يرجع، فلا معنى لتعديد الأقوال والله المستعان.
ويضيف القرطبي: في هذه الآية رد على القدرية والمعتزلة والإمامية لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعاله منه، طاعة كانت أو معصية، لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله، فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه، وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم، فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية، ولا كرروا السؤال في كل صلاة، وكذلك تضرعهم إليه في دفع المكروه، وهو ما يناقض الهداية حيث قالوا: (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فكما سألوه أن يهديهم سألوه ألا يضلهم، وكذلك يدعون فيقولون: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) آل عمران 8.
وأضاف في الجامع لأحكام القرآن: اختلف في (المغضوب عليهم) و (الضالين) من هم؟ الجمهور: أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسراً عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عدي بن حاتم، وقصة إسلامه، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، والترمذي في جامعه. انتهى موضع الحاجة.
أقول: إن الاعتقاد الملازم لرأي الجمهور الذي أشار إليه القرطبي والمتمثل في نسبة الجزء الثاني من الآية الأخيرة في سورة الفاتحة إلى اليهود والنصارى لا يعد إلا ترجيحاً من دون مرجح، وذلك لأن القرآن الكريم لا يمكن أن يأتي بالكلام على هذا الوجه إذا كان المشار إليهم ممن التزم شرع الله تعالى الذي أرسل به الأنبياء، فليس من الحق أن نقول إن الله تعالى قد خص هؤلاء بالغضب والضلال دون غيرهم، باعتبار أن التسليم بأخذ النسبة الخاطئة يجعل هذا الأمر متداولاً بين الناس على خلاف المراد من مفهوم النص مما يولّد الكراهية والحقد بين أبناء البشرية لا سيما في هذا الزمن الذي أصبح فيه العالم على مقربة من بعضه. وبطبيعة الحال إذا كانت هناك مجموعة من اليهود أو النصارى قد غضب الله عليهم، فلا بد أن يكون من المسلمين من هو داخل في هذا الغضب إذا كان نهجه مطابقاً لنهجهم، من هنا نفهم أن المصادر القديمة التي تطرقت إلى هذا النوع من التحليل، يجب أن لا ينظر إليها لأنها بعيدة كل البعد عن مراد الله تعالى، وتناقضها ظاهر مع مفهوم الآيات التي تعطي لكل ذي حق حقه، شريطة أن يكون أتباع تلك الشرائع قد ساروا على نهج الله تعالى الذي أنزله على لسان رسله، وهذا ما ينطبق على المسلمين أيضاً، وقد أثنى الله تعالى على جميع أصحاب الشرائع ووصفهم بأبلغ الأوصاف كما في قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 62. وقريب منه المائدة 69. وهذا يدل على أن الله تعالى لا ينظر إلى الأسماء والأوصاف وإنما الأصل في ذلك يُرد إلى الإيمان به جل شأنه وإلى الإيمان باليوم الآخر، إضافة إلى العمل الصالح الذي يعد علة الأشياء المقررة في الوصف، وما يثبت أن الأسماء والأوصاف لا تقرر قبول العمل عنده تعالى هو ما ذكره من محاسن الأنبياء في قوله: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم) الأنعام 83. ثم ذكر مجموعة من الأنبياء بأحسن الأوصاف والثناء وفي الختام قال سبحانه: (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) الأنعام 88.
وبالإضافة إلى هذا فقد أثنى القرآن الكريم على أهل الكتاب بأبلغ الأوصاف، كما في قوله تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) الأعراف 159. وكذا قوله: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب) آل عمران 199. وقوله: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون... يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين) آل عمران 113- 114. وفي مقابل هذه الآيات هناك آيات تذم المسلمين الذين ضلوا عن طريق الله تعالى ويغنينا عن ذكرها تفرقها وانتشارها في القرآن الكريم وبطرق مختلفة أهمها النفاق وظن السوء وأكل مال اليتيم و التعامل بالربا وغيرها من المحرمات، إذن لا فضل لأحد على أحد إلا باتباع طريق الحق سبحانه بغض النظر عن العناوين ومن هنا يظهر أن الآيات التي تتحدث عن غضبه تعالى لا تختص بقوم دون قوم وإنما بفئة من نفس القوم فتأمل. وهذا ظاهر في قوله: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون) البقرة 61. وقريب منه آل عمران 112. والحقيقة أن الذين قتلوا الأنبياء هم فئة من اليهود، وكذا قوله: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل) المائدة 60. والتبعيض ظاهر في قوله: (وجعل منهم) وقوله تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين) الأعراف 152.
وما يتناسب وهذا الطرح هناك بعض الآيات التي أشارت إلى غضب الله تعالى على المؤمنين أنفسهم كما في قوله: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) الأنفال 16. وكذا قوله: (والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) النور 9. 

    من كتابنا: السلطان في تفسير القرآن
       

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق