القرآن، النسّاخ وفيها!/ شوقي مسلماني

القرآن الكريم يشمخ بفصاحته: ﴿ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ، لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ، مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾.
وبين الحين والآخر، وبتقديرٍ أنّه أخرج أمّةً إلى أنوار، أجدني متنبّهاً أنّ النسخَ هو عملٌ بشري. وممّا في الجملةِ: ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ "فِيهَا" وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِين﴾.
وكم وجدتني متنبّهاً إلى "فيها" أليس: ﴿ إنّهما في النار خالدَين﴾؟. وحاولتُ أن أبحثَ في شأن "فيها". ووقعتُ على أكثر مِن إجلاء: "إن هذا المثل متصل بقوله (ولهم عذاب أليم) كما يفصح عنه قوله في آخره، فكان عاقبتهما أنهما في النار، أي مثلهم في تسبّبهم لأنفسهم عذاب الآخرة كمثل الشيطان إذ يوسوس للإنسان بأن يكفر، ثم يتركه ويتبرأ منه، فلا ينتفع أحدهما بصاحبه، ويقعان معا في النار.
فجملة "كمثل الشيطان" حال من ضمير، ولهم عذاب أليم، أي في الآخرة، والتعريف في الشيطان تعريف الجنس وكذلك الإنسان. والمراد به الإنسان الكافر. ولم ترد في الآخرة حادثة معينة من وسوسة الشيطان لإنسان معين في الدنيا. والله تعالى يقول: ﴿لما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين﴾. وهل يتكلم الشيطان مع الناس في الدنيا؟ فإن ظاهرة قوله: ﴿قال إني بريء منك﴾ أنه يقوله للإنسان، وأما احتمال أن يقوله في نفسه فهو احتمال بعيد.
فالحق: إن قول الشيطان هذا هو: ﴿وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسكم﴾. وقوله: ﴿فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدَين "فيها"﴾ من تمام المثل، أي كان عاقبة المثل بهما خسرانهما معاً".
وألاحظُ أنّه يُثبِّت "فيها" وأنا أُقصِّر دون تثبيتها على كلّ صعيد. ولكن لماذا التثبيت؟. وفيما الشرح غيرَ بعيد لأُدرِك أنّ للجواب ثِقلاً، ومَن يعقل أو يُفكِّر له هو موجود: "وأما قوله تعالى ﴿وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم "من قبله" لمبلسين﴾ فهي من أشكل ما أورد ومما أعضل على الناس فهمها، فقال كثير من أهل الإعراب والتفسير: إنه على التكرير المحض والتأكيد، وهناك مَن قال: (مِن قبله "من باب التوكيد، كقوله تعالى: ﴿كان عاقبتهما أنهما في النار خالدَين "فيها"﴾. ومعنى التوكيد فيه: الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعُد فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار بذلك على قدر اهتمامهم بذلك. هذا كلامه، وقد اشتمل على دعويين باطلتين: إحداهما: قوله: إنه من باب التكرير، والثانية تمثيله ذلك بقوله تعالى: ﴿فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدَين "فيها"﴾. فإن "في" الأولى على حد قولك: زيد في الدار، أي حاصل، أو كائن، وأما الثانية فمعمولة للخلود، وهو معنى آخر غير معنى مجرد الكون، فلما اختلف العاملان ذكر الحرفين، فلو اقتصر على أحدهما كان من باب الحذف لدلالة الآخر عليه، ومثل هذا لا يقال له تكرار، ونظير هذا أن تقول زيد في الدار نائم "فيها" أو ساكن "فيها" ونحوه مما هو جملتان مقيدتان بمعنيين".
وإذن هنا محاجّة في "فيها" فمَن يقول بالتكرار مفيداً التأكيد ومَن يردّ بجملتين مقيّدتين بمعنيين، وإلاّ "كان من باب الحذف لدلالة الآخر عليه". وهنا بيت القصيد، وحقّه علينا التمعّن: "ونظير هذا أن يقول زيد في الدار نائمٌ "فيها" أو ساكن "فيها" ونحوه ممّا هو جملتان مقيّدتان بمعنيين". والمثل الذي يضربه لا يعدو أن يكون تحت الضوء ذاته، فأين الإشكال من دون "فيها" أوّلاً وتالياً؟ ﴿فكان عاقبتهما أنّهما في النار خالدَين ...﴾ إنّ خلودهما في النار يفيد غير أنّهما فيها؟.
وبالتأكيد هو نظرٌ يرى إلى محاجّات ويُشرِف على ناسخِين، فيما القرآن الكريم له فصاحته وانسيابه وبلاغته وبيانه.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق