الطريق إلى مكة/ صالح الطائي


ساعتان بالسيارة هي المسافة الفاصلة بين المدينة المنورة ومكة المكرمة لكن على الحاج والمعتمر أن ينزل أولا في المواقيت لكي يلبس الإحرام ويتهيأ لأداء المراسيم والشعائر، وفي حالتنا نحن القادمون من المدينة يعتبر مسجد الشجرة أو ما يعرف بمسجد آبار علي الذي يقع على الطريق المفضي إلى مكة على مسافة قصيرة من المدينة ميقاتنا، حيث نزعنا فيه المخيط من الملابس واغتسلنا ولبسنا الإحرامات وصلينا ركعتين في الميقات ثم أدينا صلاة المغرب وبعدها يممنا وجوهنا صوب مكة المكرمة لندخلها محرمين.
لحظة لبس الإحرام تسلب من الحاج الكثير من حقوقه الطبيعية التي كان يؤديها مطمئنا قبل ذلك ومنها يحرم عليه مثلا لمس زوجته أو تقبيلها بشهوة وقتل هوام الجسد كالقمل والبعوض وما شابه وصيد الطيور والحيوانات للأكل أو اللهو وقتل هوام الأرض حتى المؤذية منها والخطبة وعقد القران وإخراج الدم من الجسد حتى ولو كان سهوا وقطع أو قلع شعر الجسد وحك الجسد المفضي إلى إخراج الدم، المدهش أني ساعة لبست الإحرام بدأ جسمي يهرشني في كل بقعة منه وبشكل غريب غير مألوف لأتأكد كم هو مرغوب ما يمنع عنا وكم هو صادق من قال: (كل ممنوع مرغوب)
عند وصولنا إلى مكة المكرمة توجهنا من ساعتنا إلى بيت الله الحرام لنطوف بالبيت سبعا ثم نهرول بين الصفا والمروة سبعة أشواط ثم لنقصر شعرنا لنعود بعد ذلك لأداء طواف النساء بسبعة أشواط أخرى ، ويقدر مجموع المسافة التي يقطعها الحاج والمعتمر في هذا النشاط بين المشي والهرولة بأقل قليلا من ثلاثة كيلومترات من التعب اللذيذ الممتع الذي تشعر خلاله وكأنك رديف الملائكة المسومين يتعاهدون العناية بك ويمدونك بالقوة والعزم لتكمل ما بدأته مهما كانت درجة تألمك وشكواك نتيجة التقدم في العمر أو ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة أو التدافع الشديد وتلك الأمواج البشرية التي توجهك كما يحلو لها لا كما تريد.
بعد الطواف الأول تقف لتصلي ركعتين خلف مقام النبي إبراهيم ثم تتجه للسعي بين الصفا والمروة وبعد أن تنهي السعي يتوجب عليك حلق أو تقصير شعرك لتعود بعد استراحة قصيرة للطواف حول البيت سبعة أشواط أخرى ثم تتحلل من الإحرام وتصبح واحدا من أهل مكة يحل لك ما يحل لهم من سلوك وتصرف ونمط حياة.
كثيرون يسألون أنفسهم بعد أداء الشعائر: أهذا فقط ما هو مطلوب منا؟ ساعتان أو أكثر قليلا من أصل خمسة عشر يوما نبدو خلالها متميزون عن غيرنا بالملبس وبعض الحركات لنعود بعدها ونصبح مثلهم؟ بل وهناك من يسأل عن جدوى هذه الحركات والسكنات التي أديناها وما علاقتها بروح الشريعة وما هو تأثيرها على نمط سلوك وأخلاق من يؤديها ولو أنها أديت في مكان آخر هل ستعطي نفس المفعول؟ ولا يمكن لمن لم يجرب السعي والطواف وتذوق تلك اللذة الساحرة أن يجيب على هذه الأسئلة، أما المعتمر والحاج فجوابها لديهم جاهز ومقنع.
أمران ساحران في مكة لا يعرف قيمتهما إلا من عاش تحت تأثير سحرهما:

الأمر الأول: هو أن البيت وما حوله من مساحة غير مكيف لصعوبة تنفيذ ذلك لكونه منطقة مفتوحة ولذا يشعر الحاج عند الطواف بتأثير الحرارة والرطوبة عليه ولكنه بعد أن يصل إلى قرب الحجر الأسعد يشعر بنسمات ريح طيبة تشرح القلب وتشعره بالراحة والانبساط لعذوبتها وغرابتها وهي طبعا مستمرة في الليل والنهار لا تنقطع ولا تتوقف مهما كانت الريح ساكنة وكأن الله سبحانه يصافح من خلالها عباده الطائفين في بيته المحرم ليشعرهم أنه يراهم ويرعاهم ويساندهم ويساعدهم.
الأمر الثاني وهو أمر جدير ذكره لأنه من أنواع السحر الأسود وهو أن تعامل هيئة الأمر بالمعروف في مكة مع المعتمرين يختلف قليلا عما هو عليه في المدينة المنورة فهم يبدون أكثر ليونة وأقل عصبية وتشددا وأقل اتهاما بالشرك أو الكفر ولولا وجود بعض الجامدين منهم لكانت الحال بخير وعافية إلا أن وجود هؤلاء الجامدين الذين أعتقد أنهم تلقوا تدريباتهم في المدينة المنورة أو نقلوا منها إلى مكة طالما عكر لحظات العرفانية التي يعيشها المرء وهو يحدق بالكعبة المشرفة الماثلة أمام عينيه وكأنه بين الحلم والحقيقة فتبدر منه إشارة أو كلمة لا وجود لها في قاموس الإيمان الوهابي فتثير غضبهم وحنقهم وتظهر روحهم العدوانية جلية واضحة. ولكن مع كل ذلك أجدهم أكثر تماهيا مع متطلبات الحجيج وتسامحا معهم وربما يكون ذلك تبعا لتوجيهات قد صدرت لهم من السلطات السعودية للحد من الشكاوى التي تتقدم بها الدول.
وبعد نوع من مقبولية التعامل الذي بدر من أعضاء هيئة مكة رغم أنه لم يرق بعد لأن يكون تعاملا إنسانيا مقبولا، أسحب مقترحي السابق بوضع المسجد النبوي تحت وصاية إسلامية لأن ذلك مستحيل تطبيقه وأتمنى بدلا عنه أن يعاد النظر بعمل الهيئة، وأن ينتظم أعضاؤها بدورات تعلمهم مباديء السلوك السوي مع الآخر في الأقل من باب مكاسب العمل السياحي وليس الواجب الديني فالحج يدر على المملكة السعودية موارد لا تقل قيمتها عن موارد النفط الآيل للنضوب وإذا ما كان الناس اليوم مجبرون على الذهاب للحج امتثالا لأمر الله تعالى فإنهم قد يحجمون مستقبلا عن الذهاب لكي يتجنبوا الإهانات والتطاول غير المستساغ.
كان عدد أفراد وفدنا تسعة وخمسون حاجا وحاجة وقد اصطحب كل منا معه من بغداد حقيبة صغيرة وضع فيها إحراما ته واحتياجاته الأخرى ولكننا عندما أنزلنا حقائبنا لوضعها في السيارة التي ستتوجه بنا إلى مطار جدة لاحظت أن كل واحد منهم يحمل حقيبتين كبيرتين أو أكثر مع مجموعة أكياس وحقائب صغيرة مملوءة بالهدايا التي اشتراها من الأسواق السعودية مقابل مئات الدولارات، وهكذا الحال بالنسبة لكل الوفود الأخرى سواء كانت عراقية أم عربية مما يعني أن هذه المشتريات تحقق ربحا للتاجر السعودي ما كان سيتحقق لولا فريضة الحج والعمرة، وتحقق موردا ماليا كبيرا من العملة الصعبة للخزينة السعودية يسهم في تنمية مواردها المالية بشكل تحسدها عليه البلدان الأخرى، وإذا لم يكن الوازع الديني أو التنمية السياحية سببا يدعوهم لتحسين تعاملهم مع الوافدين فإن هذا المال يجب أن يكون دافعا قويا يدفعهم لتحسين التعامل بدل ذلك الجفاء الذي لقيناه منهم.

وإلى اللقاء مع الحلقة الثالثة عن سحر مكة المكرمة وأسرارها

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق