الطريق إلى مدينة الرسول الأعظم/ صالح الطائي


ساعتان وعشر دقائق من السفر جوا يصل بعدها الحجاج العراقيون إلى مطار جدة السعودي هذا طبعا بعد أن يكونوا قد قضوا بين خمس وعشر ساعات في مطار بغداد انتظارا لموعد السفر الذي تأجل عدة مرات بدون معرفة السبب، تليها ثمانية ساعات بالتمام والكمال هي المدة التي تستغرقها السيارة في طريقها من جدة إلى المدينة المنورة. ثم تأتي مسألة توزيع الوفد على غرف الفندق وباقي التنظيمات الأخرى لتضيف ساعات جهد وتعب أخرى ولذا أجد أنه ليس بالأمر الهين أن ينوي الإنسان التوجه إلى المدينة المنورة لزيارة قبر الرسول والسلام عليه إذا ما كان متعبا أو يشعر بوعكة حتى لو كانت بسيطة، فإضافة لما سبق هناك صعوبات جمة تبدأ من حجم المبلغ الواجب دفعه لشركات الحج المختصة التي هي سعودية الجنسية بالأساس يتفق معها المتعهدون المحليون على عدد أفراد الوفد ومدة السفرة ومأكل ومسكن الوفود بالإضافة إلى المبلغ المرتفع الذي تتقاضاه هيئة الحج التي احتكرت عمليات نقل الحجاج جوا بأسطولها الجوي الكبير ومواعيدها العبثية غير المنضبطة سواء عند الذهاب أو عند العودة.

تأتي بعد ذلك القدرة الشخصية للمعتمر والتي يجب أن تكون بمواصفات خاصة تعينه على أداء المناسك الصعبة والمعقدة مع أجواء تمتاز بالحر الشديد والرطوبة المرتفعة والزحام الكبير والتدافع الذي أدمنه بعض الحجاج دون التفات لقداسة المكان.

وثالثة الأثافي هي مسألة التعامل مع المشرفين السعوديين على الأماكن المقدسة وهم ما يعرفون عادة باسم (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فهؤلاء الأعضاء الذين يتزيون بالزي العربي كزي رسمي وهو عبارة عن ثوب ابيض وكوفية وعقال وعباءة خفيفة سوداء ، وهم جميعا في عمر المراهقة ويمتازون بالحدة والتشدد الكبيرين فهم يراقبون الحجيج كما تراقب النسور طرائدها فإذا ما بدر من الحاج أمر ما بتعمد أو نتيجة السهو ومهما كان بسيطا ينقضون عليه من كل صوب تسبقهم كلمة (لا تشرك يا حاج) وتتبعها أيديهم الجاهزة للدفع أو السحل دونما اعتبار لمكانة ومنزلة وعمر ومعتقد الضحية ونيته وسبب صدور هذا الأمر منه حتى أنهم يحاسبون الحجيج على التوقف أو الإشارة أو السلام باليد إلى قبر الرسول وصاحبيه ويقولون لمن يطيل النظر إلى قبر النبي: (أيش تنظر يا حاج الرجل مات وتحول إلى تراب وهو لا يراك ولا تراه، امش ... امش ولا تتوقف وإلا أسحلك للسيارة!!) وبيني وبينكم أنا كنت أرتعب من كلمة أسحلك للسيارة بعد أن جربت عملية السحل للسيارة عدة مرات من قبل حيث كانت السحلة الواحدة تطول لأشهر من التعذيب والتنكيل.

وكانت تصرفاتهم غير المنضبطة تنغص على الحجيج متعة التطلع لقبر رسول الله والتبرك برؤيته لأنهم يريدون أداء المناسك وفق منهجهم الخاص دون النظر لموضوع التمايز الموجود بين المذاهب الإسلامية في أداء الطقوس والعبادات وهو الموضوع الذي تكلم عنه المرحوم علي الوردي بصراحة يوم قال: إن من العبث أن نقسر الناس على أداء الطقوس كما نريد نحن أن يؤدوها دون النظر لخلفياتهم الحياتية وما مروا به .

كنت أتوقف أحيانا لاسترجع ما قرأته عن معاناة النبي الأكرم (ص) مع قومه وأعراب الجزيرة في عصر البعثة وأقارن بين ما قرأته في التاريخ وما أراه بأم عيني اليوم ثم فجأة امتدت يد من المجهول صفراء فاقعة تذكرني بتحذير النبي (ص): (إياكم وصفر الوجوه من دون علة) لتدفعني بشدة مع سيل كلمات لا أعرف إذا ما كانت تتهمني بالشرك أو غير ذلك بسبب خروجها السريع من بين الشفاه المزبدة المرعدة، وامتثلت للأوامر صاغرا ولم أحاججه بشيء لأن الله سبحانه قال في محكم كتابه الكريم (لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) لكن ثمة لوعة كانت تعتصر قلبي وعبرة تخنقني عندما يحدث مثل هذا التجاوز معي أو مع غيري، ولطالما سألت نفسي: أما كان الأجدر بهم أن يكلموا الناس برفق كما أمر النبي بذلك في حديثه عن أم المؤمنين عائشة (إن الله رفيق يحب الرفق)؟ وماذا سيحدث لو قال بدل جملة التكفير والشرك المعهودة: (رجاء الوقوف هنا ممنوع؟) أو قال: (تحرك رجاء لأنك تعيق مسير الحجاج) بدل أن يسارع لإخراج الحاج الوافد لزيارة قبر الرسول من ملة الإسلام لمجرد وقوفه في مكان مرفوض وقوف الناس فيه وفق الفقه الوهابي مع عدم وجود دلالة أو علامة تحذير تدل على وجود مثل هذا المنع؟

أربعة أيام عشتها أتنعم مرة بعرفانية الحضور بين يدي الرسول أشم خلالها ضوع أريج الرسالة النقي وأنظر لأركان المسجد فأتخيل رسول الله جالسا والصحابة الكرام يحيطون به ينهلون من عذب حكمه وسامي أخلاقه وهم يتلقون رسائل السماء إليهم في أزمان لن يتاح مثلها لأحد بعدهم أبدا. وأتألم مرة أخرى من جور وظلم ما يلقاه الحجيج من أعضاء الهيئة.

وفي أشد الأوقات قتامة وسوداوية تمنيت لو أن لي سلطة نافذة لكنت سخرتها لوضع قبر الرسول تحت وصاية لجنة من كل الدول الإسلامية تشرف عليه وتدير شؤونه وتنظم مراسم زائريه وتسهر على راحتهم من دون أن تضع الحاج في خانة الشرك حتى ولو اخطأ بدل هؤلاء الأعضاء المراهقين.

وحينما حل اليوم الخامس ونوينا السفر إلى بيت الله الحرام وقفت من بعيد أشكو لرسول الله ما لقيناه من القائمين على شؤون قبره وأساله إذا ما كان راضيا عن سلوكهم أم انه غضبان مثلنا واشد غضبا منا لأن أعضاء الهيئة قسوا على وفود زائريه وضيوفه ولم يكرموهم إكراما له؟

إن من ينظر لعظمة بناء قبر النبي وحجم المبالغ العظيمة التي صرفت على بنائه الحديث وتوسعته ووسائل الراحة المتوفرة فيه وقوة أجهزة التبريد الفائقة وتوفر مياه زمزم للشرب العام مجانا وكثرة نسخ القرآن المركونة في رفوف مكتباته والسقائف (المظلات) الميكانيكية المتحركة التي توفر الظل للزوار والسجاد المتناسق والإنارة المنسقة بشكل رائع يتمنى أن يجد تعاملا أو خدمة تتناسب مع هذا كله أو مع جزء بسيط منه، ولكنك لا تسمع منهم سوى كلمة (لا تشرك يا حاج) لذا تصاب بمتلازمة الشرك فتظن أن كل إيماءة أو حركة أو إشارة تأتي بها أو تبدر منك سوف تفضي بك إلى الشرك فتعود من زيارة قبر النبي ومدينته المنورة وأنت محمل بأطنان الذنوب بدل الحسنات التي كنت تروم الحصول عليها وتصيبك الحسرة والخذلان لأنك كصاحبة المثل المشهور (لا حضت بثويرها ولا أخذت ملا علي)

فهل يا ترى أن زائري قبر النبي الأكرم ومدينته المنورة بعد أن صرفوا كل مدخرات عمرهم وعانوا التعب والنصب لم يحافظوا على ثورهم ولم يحضوا بالملا علي أم أنهم عادوا بخير الدنيا والآخرة بعد أن رأوا رسول الله (ص) وهو القائل: (من رآني فقد رآني لأن الشيطان لا يتمثل بي)

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق